فصل: تفسير الآيات (1- 5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (17- 22):

{كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)}
ولما كان نسبة هذا إليه توبيخاً وتقريعاً لقصور نظره فإن الإقتار قد يؤدي إلى سعادة الدارين، والتوسعة قد تؤدي إلى شقاوتهما، وهذا أكثر ما يوجد، قال ردعاً عن مثل هذا القول بأعظم أدوات الزجر معللاً للتوسعة والإقتار: {كلا} أي إني لا أكرم بتكثير الدنيا ولا أهين بتقليلها، لا التوسعة منحصرة في الإكرام ولا التضييق منحصر في الإهانة والصغار، وإنما أتتهم الإهانة من حيث إنهم لا يطيعون الله، وربما كان بالتوسعة، وربما كانت بالإقتار، فربما عصى فوسع عليه إهانة له، وهذا لمن يريد سبحانه به الشقاء فيعجل له طيباته في الدنيا استدراجاً، وربما عصى فضيق عليه إكراماً له لأن ذلك يكفر عنه، وفي الصحيح في حديث أقرع وأبرص وأعمى في بني إسرائيل شاهد عظيم لذلك.
ولما زجر عن اعتقاد أن التوسعة للاكرام والتضييق للاهانة، ذكر أن معيار من جبل على حب الطاعة ومن جبل على حب المعصية بغض الدنيا وحبها، فقال معرباً عن كلام الإنسان في الشقين وأفرد أولاً لأنه أنص على التعميم وجمع ثانياً إعلاماً بأن المراد الجنس {بل} أي يستهينون بأمر الله بما عندهم من العصيان، فيوسع على بعض من جبل على الشقاء إهانة له بالاستدراج ويضيق على بعض من لم يجبل على ذلك إكراماً له وردعاً عن اتباع الهوى ورداً إلى الإحسان إلى الضعفاء، وترجم هذا العصيان الذي هو سبب الخذلان بقوله: {لا يكرمون} أي أكثر الناس {اليتيم} بالإعطاء ونحوه شفقة عليه ورحمة له لأنه ضعيف لا يرجى من قبله نفع بثناء ولا غيره.
ولما كان الإنسان لا يمنعه من حث غره على الخير إلا حب الدنيا إن كان المحثوث أعظم منه فيدخره لحوائجه وإن كان مثله فإنه يخشى أن يقارضه بذلك فيحثه على مسكين آخر، وكان الإحسان بالحث على الإعطاء أعظم من الإعطاء لأنه يلزم منه الإعطاء بخلاف العكس، قال: {ولا يحضون} أي يحثون حثاً عظيماً لأهلهم ولا لغيرهم {على طعام المسكين} أي بذله له سخاء وجوداً، فكانت إضافته إليه إشارة إلى أنه شريك للغني في ماله بقدر الزكاة.
ولما دل على حب الدنيا بأمر خارجي، دل عليه بأمر في الإنسان فقال تعالى: {ويأكلون} أي على سبيل التجديد والاستمرار {التراث} أي الميراث، أصله وراث أبدلت الواو تاء، وكأنه عبر عنه به دلالة على أخذ الظاهر الذي تشير إليه الواو، والتفتيش عن الباطن المشار إليه بمخرج التاء تفتيشاً ربما أدى إلى أخذ بعض مال الغير: {أكلاً لمّاً} أي ذا لمٍّ أي جمع وخلط بين الحلال والحرام فإنهم كانوا لا يؤرثون النساء ولا الصبيان ويأكلون ما جمعه المؤرث وإن كانوا يعلمون أنه حرام ويقولون: لا يستحق المال إلا من يقاتل ويحمي الحوزة.
ولما كان ذلك قد يفعل عن ضرورة مع الكراهة قال ما هو صريح في المقصود: {ويحبون} أي على سبيل الاستمرار {المال} أي هذا النوع من أي شيء كان، وأكده بالمصدر والوصف فقال: {حباً جماً} أي كثيراً مع حرص وشره، فصار قصارى أمرهم النظر الدنيوي، ولم يصرفوا أنفسهم عن حبه إلى ما دعا إليه العقل الذي يعقل النفس عن الهوى، والحجر الذي يحجرها عن الحظوظ، والنهية التي تنهاها عن الشهوات إلى الإقبال على الله.
ولما كان السياق هادياً إلى أن التقدير: يحسبون أن ذلك يوفر أموالهم ويحسن أحوالهم ويصلح بالهم، زجر عنه بمجامع الزجر فقال: {كلا} أي ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر، ثم استأنف ذكر ما يوجب ندمهم وينبههم من رقدتهم ويعرفهم أن حب المال لا يقتضي نموه، ولو اقتضى نموه ما اقتضى إيجابه للسعادة فقال: {إذ دكت الأرض} أي حصل دكها ورجها وزلزلتها لتسويتها فتكون كالأديم الممدود بشدة المط لا عوج فيها بوجه، وأشار بالبيناء للمفعول إلى سهولة ذلك لأن الأمر عظيم لعظمة الفاعل الحق، ولذلك قال: {دكاً دكاً} أي مكرراً بالتوزيع على كل موضع ناتٍ فيها، فيكون لكل جبل وأكمة وثنية وعقبة دك يخصه على حدته ليفيد ذلك أنه دك مبالغ فيه فتصير جبالها وأكمامها هباءً منثوراً ثم تستوي حتى لا يكون فيها شيء من عوج، وهو كناية عن زلازل عظيمة لا تحملها الجبال الرواسي فيكف بغيرها.
ولما دلت التسسوية على مجيء أمر عظيم، فإن العادة في الدنيا أن الطرق لا تعم بالكنس أو الرش أو التسوية إلا لحضور عظيم كالسلطان، قال متلطفاً بالمخاطب من أواخر سورة البروج إلى هنا بذكر صفة الإحسان على وجه يفتت أكباد أضداده، {وجاء ربك} أي أمر المحسن إليك بإظهار رفعتك العظمى في ذلك اليوم الأعظم لفصل القضاء بين العباد بشفاعتك {والملك} أي هذا النوع حال كون الملائكة مصطفين {صفاً صفاً} أي موزعاً اصطفافهم على أصنافهم كل، صنف صف على حدة، ويحيط أهل السماء الدنيا بالجن والإنس، وأهل كل سماء كذلك، وهم على الضعف ممن أحاطوا به حتى يحيطوا أهل السماء السابعة بالكل وهم على الضعف من جميع من أحاطوا به من الخلائق، ومعنى مجيئه سبحانه وتعالى بعد أن ننفي عنه أن يشبه مجيء شيء من الخلق لأنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإذا صححنا العقد في ذلك في كل ما كان من المتشابه قلنا في هذا إنه مثل أمره سبحانه وتعالى في ظهور آيات اقتداره وتبيين آثار قدرته وقهره وسلطانه يحال الملك إذا حضر بنفسه فظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بظهور عساكره كلها خالية عنه، فمجيئه عبارة عن حكمه وإظهار عظمته وبطشه وكل ما يظهره الملوك إذا جاؤوا إلى مكان، وهو سبحانه وتعالى شأنه حاضر مع المحكوم بينهم بعلمه وقدرته، لم يوصف بغيبة أصلاً أزلاً ولا أبداً، فحضوره في ذلك الحال وبعده كما كان قبل ذلك من غير فرق أصلاً ولم يتجدد شيء غير تعليق قدرته على حسب إرادته بالفصل بين الخلق، ولو غاب في وقت أو أمكنت غيبته بحيث يحتاج إلى المجيء لكان محتاجاً، ولو كان محتاجاً لكان عاجزاً، ولو عجز أو أمكن عجزه في حال من الأحوال لم يصلح للالهية- تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوّاً كبيراً، وفي تكرير {صفاً} تنبيه على صرف المجيء عن حقيقته وإرشاد إلى ما ذكرت من التمثيل.

.تفسير الآيات (23- 30):

{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)}
ولما كانت جهنم لا تأتي بنفسها لأنها لو أتت بنفسها لربما ظن أنها خارجة عن القدرة بل تقودها الملائكة، فكلما عالجوها ذهاباً وإياباً حصل للناس من ذلك من الهول ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وكان المهول نفس المجيء بها لا تعيين الفاعلين، لذلك بني للمفعول قوله: {وجاء} أي بأسهل أمر {يومئذ} أي إذ وقع ما ذكر {بجهنم} أي النار التي تتجهم من يصلاها، روي أنه يؤتى بها لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك، وهو كقوله تعالى: {وبرزت الجحيم لمن يرى} [النازعات: 36] وأبدل من {إذا} توضيحاً لطول الفصل وتهويلاً قوله: {يومئذ} أي إذ وقعت هذه الأمور فرأى الإنسان ما أعد للشاكرين وما أعد للكافرين.
ولما قدم هذه الأمور الجليلة والقوارع المهولة اهتماماً بها وتنبيهاً على أنها، لما لها من عظيم الموعظة، جديرة بأن يتعظ بها كل سامع، ذكر العامل في ظرفها وبدله فقال: {يتذكر الإنسان} أي على سبيل التجديد والاستمرار فيذكر كل ما كان ينفعه في الدنيا وما يضره فيعلم أن حبه للدنيا لم يفده إلا خساراً، لا زاد بحبها شيئاً لم يكتب له ولا كان ينقصه بذلها شيئاً كما كتب له أو بذلها، وإذا تذكر ذلك هان عليه البذل، وليست تلك الدار دار العمل، فلذلك قال: {وأنى} أي كيف ومن أي وجه {له الذكرى} أي نفع التذكر العظيم فإنه في غير موضعه، فلا ينفعه أصلاً بوجه من الوجوه لفوات دار العمل، ولا يقع بذلك على شيء سوى الندم وتضاعف الغم والهم والآلام.
ولما كان الندم يقتضي أن يعمل الإنسان ما ينافيه، بين أنه ليس هناك عمل إلا إظهار الندم فاستأنف قوله: {يقول} أي متمنياً المحال على سبيل التجديد والاستمرار: {يا ليتني} وهل ينفع شيئاً ليت {قدمت} أي أوقعت التقديم لما ينفعني من الجد والعمل به {لحياتي} أي أيام حياتي في الدنيا أو لأجل حياتي هذه الباقية التي لا موت بعدها، ويمكن أن يكون سبب تمنيه هذا علمه بأنه كان في الدنيا مختاراً، وأن الطاعات في نفسها كانت ممكنة لا مانع له منها في الظاهر إلا صرف نفسه عنها وعدم تعليق ما أتاه الله من القوى بها.
ولما كان هذا غير نافع له، سبب عنه قوله: {فيومئذ} أي إذ وقعت هذه الأمور كلها {لا يعذب} أي يوقع {عذابه} أي عذاب الله، أي مثل عذابه المطلق المجرد فكيف بتعذيبه. ولما اشتد التشوف إلى الفاعل، أتى به على وجه لا أعم منه أصلاً فقال: {أحد}.
ولما جرت العادة بأن المعذب يستوثق منه بسجن أو غيره، ويمنع من كل شيء يمكن أن يقتل به نفسه، خوفاً من أن يهرب أو يهلك نفسه قال: {ولا يوثق} أي يوجد {وثاقه} أي مثل وثاقه فكيف بإيثاقه {أحد} والمعنى أنه لا يقع في خيال أحد لأجل انقطاع الأنساب والأسباب أن أحداً يقدر على مثل ما يقدر عليه سبحانه وتعالى من الضر ليخشى كما يقع في هذه الدنيا، بل يقع في الدنيا في أوهام كثيرة أن عذاب من يخشونه أعظم من عذاب الله- وأن عذاب الدنيا بأسره لو اجتمع على إنسان وحده لا يساوي رؤية جهنم بذلك المقام في ذلك المحفل المهول دون دخولها- ولذلك تقدم خوفه على الخوف من الله، وبنى الكسائي ويعقوب الفعلين للمفعول، والمعنى على قراءة الجماعة ببنائها للفاعل: لا يعذب أحد عذاباً مثل عذاب الله أي لا يعذب أحد غير الله أحداً من الخلق مثل عذاب الله له، والحاصل أنه لا يخاف في القيامة من أحد غير الله، فإنه ثبت بهذا الكلام أن عذابه لا مثل له، ولم يذكر المعذب من هو فيرجع الأمر إلى أن المعنى: فيومئذ يخاف الإنسان من الله خوفاً لا مثل له، أي لا يخاف من أحد مثل خوفه منه سبحانه وتعالى، ويجوز أن يكون الضمير في {عذابه} للإنسان، أي لا يعذب أحد من الزبانية أحداً غير الإنسان مثل عذابه، وفي المبني للمفعول: لا يعذب عذاب الإنسان أحد لكن يبعده أنه يلزم عليه أن يكون عذاب الإنسان أعظم من عذاب إبليس- ويجوز أن يكون المعنى: إنه لا يحمل أحد ما يستحقه من العذاب كقوله تعالى:
{ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164].
ولما علم أن هذا الجزاء المذكور لا يكون إلا للهلوع الجزوع المضطرب النفس الطائش في حال السراء والضراء، الذي لا يكرم اليتيم ولا المسكين ويحب الدنيا، وكان من المعلوم أن من الناس من ليس هو كذلك، تشوفت النفس إلى جزائه فشفى عيّ هذا التشوف بقوله، إعلاماً بأنه يقال لنفوسهم عند النفخ في الصور وبعثرة ما في القبور للبعث والنشور: {يا أيتها النفس المطمئنة} أي التي هي في غاية السكون لا خوف عليها ولا حزن ولا نقص ولا غبون، لأنها كانت في الدنيا في غاية الثبات على كل ما أخبر به عن الدار الآخرة وغيرها من وعد ووعيد وتحذير وتهديد، فهم راجون لوعده خائفون من وعيده، وإذا كانت هذه حال النفس التي شأنها الميل إلى الدنيا فما ظنك بالروح التي هي خير صرف {ارجعي} أي بالبعث {إلى ربك} أي موعد الذي أوجدك ورباك تربية الموفقين، أو إلى بدنك حال كونك {راضية} أي بما تعطينه. فلا كدر يلحقك بوجه من الوجوه أصلاً كما كنت في دار القلق والاضطراب مطمئنة ساكنة تحت القضاء والقدر سالكة سبيل الرضا إن حصل ابتلاء بالتكريم والتنعيم أو التضييق والتغريم وثوقاً بما عند الله {مرضية} عند الله وسائر خلقه، فلا شيء يكرهك بسبب ما كنت مطمئنة تعملين الأعمال الصالحة تحت القضاء والقدر خيره وشره حلوه ومره، ثم بيّن ما أجمل من الرجوع فقال سبحانه: {فادخلي} أي بسبب هذا الأمر {في عبادي} أي في زمرة الصالحين الوافدين عليَّ، الذين هم أهل للإضافة إليَّ، أو في أجساد عبادي التي خرجت في الدنيا منها، وقراءة {عبدي} بالتوحيد للجنس الشامل للقليل والكثير تدل على ذلك {وادخلي جنتي} أي وهي جنة عدن وهي أعلى الجنان، قال البغوي: قال سعيد بن جبير: مات ابن عباس رضي الله عنهما بالطائف فشهدت جنازته فجاء طائر لم نر على صورة خلقه، فدخل نعشه فلم نر خارجاً منه، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر فلم ندر من تلاها، وهذا الآخر هو أولها على ما هو ظاهر المقسم عليه بالفجر من البعث المحتوم، الذي لولا هو لكان خلق الخلق من العبث المذموم، المنزه عنه الحي القيوم، فسبحان الملك الأعظم الذي هذا كلامه، علت معانيه عن طعن وشرفت أعلامه، وغر في ذروة الإعجاز تركيبه ونظامه:
وأين الثريا من يد المتناول

.سورة البلد:

.تفسير الآيات (1- 5):

{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)}
لما ختم كلمات الفجر بالجنة التي هي أفضل الأماكن التي يسكنها الخلق، لاسيما المضافة إلى اسمه الأخص المؤذن بأنها أفضل الجنان، بعد ما ختم آياتها بالنفس المطمئنة بعد ذكر الأمارة التي وقعت في كبد الندم الذي يتمنى لأجله العدم، بعد ما تقدم من أنها لا تزال في كبد ابتلاء المعيشة في السراء والضراء، افتتح هذه بالأمارة مقسماً في أمرها بأعظم البلاد وأشرف أولي الانفس المطمئنة، فقال مؤكداً بالنافي من حيث إنه ينفي ضد ما ثبت من مضمون الكلام مع القطع بأنه لم يقصد به غير ذلك: {لا أقسم} أي أقسم قسماً أثبت مضمونه وأنفي ضده، ويمكن أن يكون النفي على ظاهره، والمعنى أن الأمر في الظهور غني عن الإقسام حتى بهذا القسم الذي أنتم عارفون بأنه في غاية العظمة، فيكون كقوله: {فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} [الواقعة: 86] {بهذا البلد} أي الحرام وهو مكة التي لا يصل إليها قاصدوها إلا بشق الأنفس، ولا يزدادون لها مع ذلك إلا حباً، الدال على أن الله تعالى جعلها خير البلاد، وقذف حبها في قلوب من اختارهم من كل حاضر وباد، لأنها تشرفت في أولها وآخرها وأثنائها بخير العباد، ولم يصفه بالأمن لأنه لا يناسب سياق المشقة بخلاف ما في التين، فإن المراد هناك الكمالات.
ولما عظم البلد بالإقسام به، زاده عظماً بالحال به إشعاراً بأن شرف المكان بشرف السكان، وذلك في جملة حالية فقال: {وأنت} يعني وأنت خير كل حاضر وباد {حال} أي مقيم أو حلال لك ما لم يحل لغيرك من قتل من تريد ممن يدعي أنه لا قدرة لأحد عليه {بهذا البلد} فتحل قتل ابن خطل وغيره وإن كان متعلقاً بأستار الكعبة، وتحرم قتل من دخل دار أبي سفيان وغير ذلك مما فعله الله لك بعد الهجرة بعد نزول هذه السورة المكية بمدة طويله علماً من أعلام النبوة، أو معنى: يستحل أهله منك وأنت أشرف الخلق ما لا يستحلونه من صيد ولا شجر، وكرر إظهاره ولم يضمره زيادة في تعظيمه تقبيحاً لما يستحلونه من أذى المؤمنين فيه، وإشارة إلى أنه يتلذذ بذكره، فقد وقع القسم بسيد البلاد وسيد العباد، ولكل جنس سيد، وهو انتهاؤه في الشرف، فأشرف الجماد الياقوت وهو سيده، ولو ارتفع عن هذا الشرف لصار نباتاً ينمو كما في الجنة، وأشرف جنس النبات النخل ولو ارتفع صار حيواناً يتحرك بالإرادة، فالحيوان سيد الأكوان، وسيده الإنسان، لما له من النطق والبيان، وسيد الإنسان الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام، لما لهم من عظيم الوصلة بالملك الديان، وسيدهم أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم الذي ختموا به لما فاق به من الفضائل التي أعلاها هذا القرآن، فسيد الخلق محمد بن عبد الله رسول الله أشرف الممكنات وسيدها لأنه وصل إلى أعلى مقام يمكن أن يكون لها، ولو بقي فوق ذلك مقام يمكن للممكن لنقل إليه، ولكونه أشرف كانت مكابدته أعلى المكابدات، يصبر على أذى قومه بالكلام الذي هو أنفذ من السهام، ووضع السلاء من الجزور على ظهره الشريف- نفديه بحر وجوهنا ومصون جباهنا وخدودنا- وهو ساجد، ووضع الشوك في طريقه، والإجماع على قصده بجميع أنواع الأذى من الحبس والنفي والقتل بحيث قال صلى الله عليه وسلم: «ما أوذي أحد في الله ما أوذيت».
ولما أفهمت هذه الحال أن القسم إنما هو في الحقيقة به صلى الله عليه وسلم، كرر الإقسام به على وجه يشمل غيره فقال: {ووالد} ولما كان المراد التعجيب من ابتداء الخلق بالتوليد من كل حيوان في جميع أمر التوليد ومما عليه الإنسان من النطق والبيان وغريب الفهم وكان السياق لذم أولي الأنفس الأمارة، وكانوا هم أكثر الناس، حسن التعبير بأداة ما لا يعقل لأنها من أدوات التعجيب فقال: {وما ولد} أي من ذكر أو أنثى كائناً من كان، فدخل كما مضى النبي صلى الله عليه وسلم فصار مقسماً به مراراً، وكذا دخل أبواه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما الصلاة والسلام وما صنعا وما صنع الله لهما بذلك البلد، ومعلوم أن ذكر الصنعة تنبيه على صانعها، فالمقصود القسم بمن جعل البلد على ما هو عليه من الجلال، وخص النبي صلى الله عليه وسلم بما خصه به من الإرسال، وفاوت بين المتوالدين في الخصال، من النقص والكمال وسائر الأحوال، تنبيهاً على ما له من الكمال بالجلال والجمال، ولعله خص هذه الأشياء بالإقسام تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيتاً له على احتمال الأذى، إشارة إلى أن من كان قد حكم عليه بأنه لا يزال في نكد، كان الذي ينبغي له أن يختار أن يكون ذلك النكد فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة المشرفة في أعظم شدة مما يعانيه من أذى الكفار في نفسه وأصحابه رضي الله عنهم لعلو مقامه، فإن شدة البلاء للأمثل فالأمثل كما مضى مع أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر والصفح، وكل والد ومولود في شدة بالوالدية والمولودية، وغير ذلك مما لا يحصى من الأنكاد البشرية، من حين هو نطفة في ظلمات ثلاث في ضيق ممر ومقر ثم ولادة وربط في تابوت وفطام عن الإلف والأهل؟ من المؤدب والمعلم وتوبيخ من المشايخ ومعاندة من الأقران، ومن يتسلط عليه من النسوان، مع أنه عرضة للأمراض، وسائر ما يكره من الأعراض والأغراض، والفاقات والنوائب والآفات، والمطالب والحاجات، لا يحظى بهواه، ولا يبلغ مناه، ولا يدرك ما اجتباه، ولا ينجو غالباً مما يخشاه، وتفاصيل هذا الإجمال لا تحصى، ولا حد لها فتستقصى، إلى الموت وما بعده، فلذلك كان المقسم عليه قوله: {لقد خلقنا} أي بما لنا من القدرة التامة والعظمة التي لا تضاهى {الإنسان} أي هذا النوع {في كبد} أي شدة شديدة ومشقة عظيمة محيطة به إحاطة الظرف بالمظروف، لو وكله سبحانه وتعالى في شيء منها إلى نفسه هلك، ولولا هذه البلايا لادعى ما لا يليق به من عظيم المزايا، وقد ادعى بعضهم مع ذلك الإلهية وبعضهم الاتحاد برب العباد- تعالى الله عن قولهم الواضح الفساد، بما قرنه به سبحانه وتعالى من الموت والمرض وسائر الأنكاد، فعل سبحانه ذلك ليظهر بما للعبد من الضعف والعجز- مع ما منحه به من القوى الظاهرة والباطنة في القول والفعل والبطش والعقل- ما له سبحانه من تمام العلم وشمول القدرة، وليظهر من خلقه له على هذه الصفة، علم جميع ما في السورة، فعلم قطعاً إنكار ظنه لتناهي قدرته وتعالي عظمته، وفساد هذا الظن بشاهد العقل من حيث كونه مصنوعاً، وبشاهد الوجود من أجل أنه يسلك طريق الشر ولا يقدر على طريق الخير إلا بالتوفيق، فعلم قطعاً إعجاز السورة لأنه لا قدرة لمخلوق على أن يأتي بجملة واحدة تجمع جميع ما وراءها من الجمل- هذا إلى ما لها من فنون الإيجاز التي وصلت إلى حد الإعجاز، هذا إلى ما لبقية الجمل من الإعجاز في حسن الرصف وإحكام التركيب والربط والمراعاة بالألفاظ للمعاني إلى غير ذلك مما لا يبلغ كنهه إلى منزله سبحانه وعز شأنه، وعلم أن الإكرام والإهانة ليستا دائرتين على التنعيم في الدنيا والتضييق كما تقدم شرحه في سورة الفجر، ولأجل ما علم من كون الإنسان لا يزال في نكد وشدة ونصب من حث احتياجه أولاً إلى مطلق الحركة والسكون، وثانياً إلى المأكل والمشرب، وثالثاً إلى ما يترتب عليهما إلى غير ذلك مما يعيي عده ويجهل حده، توجه الإنكار في قوله تعالى بياناً للأسباب الموقعة له في النكد، وهي شهوتان: نفسية وحسية، والنفسية منحصرة في أربع: الأولى أنه يشتهي أن يكون كل من في الوجود في قبضته فأشار إليها {أيحسب} أي هذا الإنسان لضعف عقله مع ما هو فيه من أنواع الشدائد {أن لن يقدر} ولما أكد بالفعلية وخصوص هذا النافي قدم الجار تأكيداً بما يفيد من الاهتمام بالإنسان فقال: {عليه} أي خاصة {أحد} أي من أهل الأرض أو السماء فيغلبه حتى أنه يعاند خالقه مع ما ينظر من اقتداره على أمثاله بنفسه وبمن شاء من جنوده فيعادي رسله عليهم الصلاة والسلام ويجحد آياته.